رد السلف على العاذرين بالجهل من الخلف
- جماعة المسلمين وإمامهم
- 20 أبريل
- 10 دقائق قراءة
رد السلف على العاذرين بالجهل من الخلف
1/ إكفار السلف لبشر المريسي والمعين من الجهمية
قال الذهبي: ومن كفر ببدعة وإن جلت ، ليس هو مثل الكافر الأصلي ، ولا اليهودي والمجوسي ، أبى الله أن يجعل من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر ، وصام وصلى وحج وزكى وإن ارتكب العظائم وضل وابتدع ، كمن عاند الرسول ، وعبد الوثن ، ونبذ الشرائع وكفر ، ولكن نبرأ إلى الله من البدع وأهلها. سيرة بشر المريسي
جواب السلف:
الإمام البخاري | كتاب خلق افعال العباد.
وَقَالَ وَكِيعٌ: " عَلَى الْمَرِّيسِيِّ لَعْنَةُ اللَّهِ، يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: كَانَ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا؟ قَالَ وَكِيعٌ: عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ، وَضَرَبَ وَكِيعٌ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، وَقَالَ: سَيِّئٌ بِبَغْدَادَ يُقَالُ لَهُ الْمَرِّيسِيُّ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ ".
وَقَالَ وَكِيعٌ: " أَحْدَثُوا هَؤُلَاءِ الْمُرْجِئَةُ الْجَهْمِيَّةُ - وَالْجَهْمِيَّةُ كُفَّارٌ - وَالْمَرِّيسِيُّ جَهْمِيٌّ، وَعَلِمْتُمْ كَيْفَ كَفَرُوا، قَالُوا: يَكْفِيكَ الْمَعْرِفَةُ، وَهَذَا كُفْرٌ
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: «لَقَدْ حَرَّضْتُ أَهْلَ بَغْدَادَ عَلَى قَتْلِهِ جَهْدِي، وَلَقَدْ أُخْبِرْتُ مِنْ كَلَامِهِ بِشَيْءٍ مَرَّةً وَجَدْتُ وَجَعَهُ فِي صُلْبِي بَعْدَ ثَلَاثٍ» . قَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «إِنَّمَا كَانَتْ غَايَتُهُ أَنْ يَدْخُلَ النَّاسُ فِي كُفْرِهِ» .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: " أَمَّا تَشْبِيهُ قَوْلِ اللَّهِ: {إِذَا أَرَدْنَاهُ} [النحل: ٤٠] ، بِقَوْلِهِ قَالتِ السَّمَاءُ فَأَمْطَرَتْ، وَقَالَ الْجِدَارُ فَمَالَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِهْ، وَهذِهِ أُغْلُوطَةٌ أَدْخَلَهَا، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَالَتِ السَّمَاءُ، ثُمَّ تَسْكُتُ لَمْ يَدْرِ مَا مَعْنَى قَالَتْ حَتَّى تَقُولَ فَأَمْطَرَتْ، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: أَرَادَ الْجِدَارَ ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنْ مَا مَعْنَى أَرَادَ لَمْ يَدْرِ مَا مَعْنَاهْ، وَإِذَا قُلْتَ: قَالَ اللَّهُ، اكْتَفَيْتَ بِقَوْلِهِ: قَالَ، فَقَالَ: مُكتَفٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى قَالَ، كَمَا احْتجْتَ إِذَا قَالَ الْجِدَارُ فَمَالَ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَقَالَ الْجِدَارُ مَعْنَى، وَمَنْ قَالَ: هَذَا فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْكُفْرِ إِلَّا وَهُوَ دُونَهُ، وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَمَذهَبُهُ التَّعْطِيلُ لِلْخَالِقِ
وَقَالَ عَلِيٌّ: سَمِعْتُ بِشْرَ بْنَ الْمُفَضَّلِ، وَذَكَرَ ابْنُ خَلُّوبَةَ بِالْبَصْرَةِ جَهْمِيٌّ فَقَالَ بِشْرٌ: «هُوَ كَافِرٌ» . وَسُئِلَ وَكِيعٌ عَنْ مُثَنَّى الْأَنْمَاطِيِّ، فَقَالَ: «كَافِرٌ» . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ «لَوْ كَانَ لِي عَلَى الْمُثَنَّى الْأَنْمَاطِيِّ سَبِيلٌ لَنَزَعْتُ لِسَانَهُ مِنْ قَفَاهُ، وَكَانَ جَهْمِيًّا»
2/ بطلان العذر بالجهل في المسائل القطعية
وقال: " هَذَا مَعَ أَنِّي دَائِمًا وَمَنْ جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي: أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية ، الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً ، وَفَاسِقًا أُخْرَى ، وَعَاصِيًا أُخْرَى ، وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا: وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ ".
انتهى من "مجموع الفتاوى" (3/229) .
وقال ابن تيمية : " وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( قَدْ فَعَلْت) ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْخَطَأِ الْقَطْعِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ أَوْ ظَنِّيَّةٍ ... فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمُخْطِئَ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ أَوْ ظَنِّيَّةٍ يَأْثَمُ ، فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ" انتهى من "مجموع الفتاوى"
ابن عثيمين مبينا فوائد هذه الآية (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ...) قال : " الفائدة العظيمة الكبرى وهي العذر بالجهل ، حتى في أصول الدين.
جواب السلف رحمهم الله :
أ)
الإمام الشافعي | كتاب الرسالة
باب الاختلاف
قال فإني أجد أهل العلم قديماً وحديثاً مختلفين في بعض أمورهم فهل يسعهم ذلك
قال فقلت له الاختلاف من وجهين أحدهما محرم ولا أقول ذلك في الآخر
قال فما الاختلاف المحرم
قلت كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه
وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويُدرك قياساً فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس وإن خالفه فيه غيره لم أقل أنه يضيق الخلاف
قال فهل في هذا حجة تُبَين فرقك بين الاختلافين
قلت قال الله في ذم التفرق وما تَفَرَّق الذين أوتوا الكتابَ إلا من بعد ما جاءتهم البينة
الله تعالى وقال جل ثناؤه ولا تكونوا كالذين تَفَرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات
فَذَمَّ الاختلاف فيما جاءتهم به البينات
فأما ما كُلِّفوا فيه الاجتهاد فقد مَثَّلته لك بالقبلة والشهادة وغيرها.
ب)
ابن جرير الطبري | جامع البيان
القول في تأويل قوله : إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة، إنما ضلوا عن سبيل الله وجارُوا عن قصد المحجة, باتخاذهم الشياطين نُصراء من دون الله، وظُهراء, (59) جهلا منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك، بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحق, وأن الصواب ما أتوه وركبوا.
وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعمَ أن الله لا يعذِّب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها. لأن ذلك لو كان كذلك, لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسَبُ أنه هادٍ. وفريق الهدى، (60) فَرْقٌ. وقد فرَّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية
3/ بطلان العذر بالجهل في التوحيد
وقال ابن تيمية : " فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحداً من الأموات ، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم ، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها ، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها.
كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ، ونحو ذلك ، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله.
لكن لغلبة الجهل ، وقلّة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين ، لم يمكن تكفيرهم بذلك ، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يخالفه ".
انتهى من كتاب "الرد على البكري" (2/ 731).
ابن العربي : " فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة ، ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً ، فإنه يعذر بالجهل والخطأ ، حتى تتبين له الحجة ، التي يكفر تاركها ، بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله " انتهى ، وقد نقله عنه القاسمي في "محاسن التأويل" (3/161).
عبد الرحمن المعلمي : " فنحن وإن قلنا في صورةٍ من صور السؤال ونحوها : إنَّ هذا دعاءٌ لغير الله تعالى وعبادةٌ وشرك ، فليس مقصودُنا أن كلَّ من فعل ذلك يكون مشركًا ، وإنما يكون مشركًا مَنْ فَعَلَ ذلك غيرَ معذور، فأما من فعلها معذورًا ، فلعلَّه يكون من خيار عباد الله تعالى ، وأفضلهم وأتقاهم" انتهى من " آثار الشيخ عبد الرحمن المعلمي" (3/ 826).
ابن عثيمين : " والجهل ـ بلا شك ـ من الخطأ ، فعلى هذا نقول : إذا فعل الإنسان ما يُوجب الكفر ، من قول أو فعل ، جاهلاً بأنه كفر ، أي : جاهلاً بدليله الشرعي، فإنه لا يكفر" انتهى من "الشرح الممتع" (14/449)
جواب السلف رحمهم الله :
أ)
ابن جرير الطبري | التبصير في معالم الدين
فأما الذي لا يجوز الجهل به من دين الله لمن كان في قلبه من أهل التكليف لوجود الأدلة متفقةً في الدلالة عليه غير مختلفةٍ،ظاهرةً للحس غير خفية، فتوحيد الله تعالى ذكره، والعلم بأسمائه وصفاته وعدله، وذلك أن كل من بلغ حد التكليف من أهل الصحة والسلامة، فلن يعدم دليلاً دالاً وبرهاناً واضحاً يدله على وحدانية ربه جل ثناؤه، ويوضح له حقيقة صحة ذلك؛ ولذلك لم يعذر الله جل ذكره أحداً كان بالصفة التي وصفت بالجهل وبأسمائه، وألحقه إن مات على الجهل به بمنازل أهل العناد فيه تعالى ذكره، والخلاف عليه بعد العلم به، وبربوبيته في أحكام الدنيا، وعذاب الآخرة فقال –جل ثناؤه-: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} .
فسوى –جل ثناؤه- بين هذا العامل في غير ما يرضيه على حسبانه أنه في عمله عاملٌ بما يرضيه في تسميته في الدنيا بأسماء أعدائه المعاندين له، الجاحدين ربوبيته مع علمهم بأنه ربهم، وألحقه بهم في الآخرة في العقاب والعذاب. وذلك لما وصفنا مناستواء حال المجتهد المخطئ في وحدانيته وأسمائه وصفاته وعدله، وحال المعاند في ذلك في ظهور الأدلة الدالة المتفقة غير المفترقة لحواسهما، فلما استويا في قطع الله –جل وعز- عذرهما بما أظهر لحواسهما من الأدلة والحجج، وجبت التسوية بينهما في العذاب والعقاب.
وخالف حكم ذلك حكم الجهل بالشرائع، لما وصفت من أن من لم يقطع الله عذره بحجة أقامها عليه بفريضة ألزمه إياها من شرائع الدين، فلا سبيل له إلى العلم بوجوب فرضها؛ إذ لا دلالة على وجوب فرضها، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن مأموراً، وإذا لم يكن مأموراً لم يكن بترك العمل لله –عز ذكره- عاصياً، ولا لأمر ربه مخالفاً؛ فيستحق عقابه؛ لأن الطاعة والمعصية إنما تكون باتباع الأمر ومخالفته.
وقال: وإذا كان صحيحاً ما قلنا بالذي عليه استشهدنا، فواجبٌ أن يكون كل من بلغ حد التكليف من الذكور والإناث وذلك قبل أن يحتلم الغلام أو يبلغ حد الاحتلام، وأن تحيض الجارية أو تبلغ حد المحيض – فلم يعرف صانعه بأسمائه وصفاته التي تدرك بالأدلة بعد بلوغه الحد الذي حددت، فهو كافرٌ حلال الدم والمال، إلا أن يكون من أهل العهد الذين صولح سلفهم على الجزية وأقهروا فمن عليهم ووصف عليهم خراجٌ يؤدونه إلى المسلمين، فيكون من أجل ذلك محقون الدم والمال وإن كان كافراً.
وقال: أما ما لا يصح عندنا عقد الإيمان لأحدٍ، ولا يزول حكم الكفر عنه إلا معرفته، فهو ما قدمنا ذكره.
وذلك أن الذي ذكرنا قبل من صفاته لا يعذر بالجهل به أحدٌ بلغ حد التكليف كان ممن أتاه من الله تعالى ذكره رسولٌ أولم يأته رسولٌ، عاين من الخلق غيره أو لم يعاين أحداً سوى نفسه.
ولله تعالى ذكره أسماءٌ وصفاتٌ جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة بأن القرآن نزل به، وصح عنده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه به الخبر منه خلافه؛
ب)
ابن جرير الطبري | جامع البيان
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف : 104]
القول في تأويل قوله : ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يقول: هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلالة، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل على كفر منهم به، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا : يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدَل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالا وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم. ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه ، كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة، وأن أعمالهم حابطة.
وعنى بقوله: ( أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) عملا والصُّنع والصَّنعة والصنيع واحد، يقال: فرس صنيع بمعنى مصنوع.
4/ بطلان القول بدخول الإسلام مع الإقامة على الشرك
وقال ابن تيمية في "الرد على الإخنائي" تحقيق العنزي (ص: 206) :
" كذلك من دعا غير الله وحج إلى غير الله هو أيضًا مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالمًا بأن هذا شرك محرم.
كما أن كثيرًا من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم وعندهم أصنام لهم صغار من لبد وغيره وهم يتقربون إليها ويعظمونها ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام، ويتقربون إلى النار أيضًا ولا يعلمون أن ذلك محرم ، فكثير من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك ، فهذا ضال ، وعمله الذي أشرك فيه باطل ، لكن لا يستحق العقوبة حتى تقوم عليه الحجة ، قال تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون )" انتهى.
جواب السلف رحمهم الله :
الإمام الشافعي | كتاب الأم
قال الشافعي رضي الله عنه: والإقرار بالإيمان وجهان: فمن كان من أهل الأوثان ومن لا دين له يدعي أنه دين نبوة ولا كتاب فإذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فقد أقر بالإيمان ومتى رجع عنه قتل. [قال]: ومن كان على دين اليهودية والنصرانية فهؤلاء يدعون دين موسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهما وقد بدلوا منه وقد أخذ عليهم فيهما الإيمان بمحمد رسول الله ﷺ فكفروا بترك الإيمان به واتباع دينه مع ما كفروا به من الكذب على الله قبله فقد قيل لي إن فيهم من هو مقيم على دينه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويقول لم يبعث إلينا فإن كان فيهم أحد هكذا فقال أحد منهم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله لم يكن هذا مستكمل الإقرار بالإيمان حتى يقول وإن دين محمد حق أو فرض وأبرأ مما خالف دين محمد ﷺ أو دين الإسلام فإذا قال هذا فقد استكمل الإقرار بالإيمان فإذا رجع عنه استتيب فإن تاب وإلا قتل وإن كان منهم طائفة تعرف بأن لا تقر بنبوة محمد ﷺ إلا عند الإسلام أو تزعم أن من أقر بنبوته لزمه الإسلام فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فقد استكملوا الإقرار بالإيمان فإن رجعوا عنه استتيبوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
5/ الرد على ضلالة العاذرين بالجهل بحصرهم أهل الكتاب في اليهود والنصارى
ابن ابي العز: الْأَقْوَالَ الْبَاطِلَةَ الْمُبْتَدَعَةَ الْمُحَرَّمَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ نَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ، أَوْ إِثْبَاتَ مَا نَفَاهُ، أَوِ الْأَمْرَ بِمَا نَهَى عَنْهُ، أَوِ النَّهْيَ عَمَّا أَمَرَ بِهِ, يُقَالُ فِيهَا الْحَقُّ، وَيُثْبَتُ لَهَا الْوَعِيدُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَيُبَيَّنُ أَنَّهَا كُفْرٌ، وَيُقَالُ: مَنْ قَالَهَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، كَمَا يُذْكَرُ من الوعيد في الظلم في النفس وَالْأَمْوَالِ، وَكَمَا قَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَشَاهِيرِ بِتَكْفِيرِ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ [وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا, وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ قَالَ: نَاظَرْتُ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُدَّةً، حَتَّى اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُهُ: أَنَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَهُوَ كَافِرٌ]. وَأَمَّا الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ، إِذَا قِيلَ: هَلْ تَشْهَدُونَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَأَنَّهُ كَافِرٌ؟ فَهَذَا لَا نَشْهَدُ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَمْرٍ تَجُوزُ مَعَهُ الشَّهَادَةُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْبَغْيِ أَنْ يُشْهَدَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ وَلَا يَرْحَمُهُ بَلْ يُخَلِّدُهُ فِي النَّارِ، فَإِنَّ هَذَا حُكْمُ الْكَافِرِ بَعْدَ الْمَوْتِ
ثُمَّ إِذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي نَفْسِهِ كُفْرًا قِيلَ: إِنَّهُ كُفْرٌ وَالْقَائِلُ لَهُ يَكْفُرُ بِشُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا [إِذَا] صَارَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا, فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُكَفَّرَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُظْهِرِينَ الْإِسْلَامَ إِلَّا مَنْ يَكُونُ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا, وَكِتَابُ اللَّهِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ صَنَّفَ الْخَلْقَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ كُفَّارٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يقرون بالشهادتين, وصنف المؤمنون بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَصِنْفٌ أَقَرُّوا بِهِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا, وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ, وَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَافِرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَانَ مُقِرًّا بِالشَّهَادَتَيْنِ, فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا زِنْدِيقًا، وَالزِّنْدِيقُ هُوَ الْمُنَافِقُ.
وَهُنَا يَظْهَرُ غَلَطُ الطَّرَفَيْنِ، فَإِنَّهُ مَنْ كَفَّرَ كُلَّ مَنْ قَالَ الْقَوْلَ الْمُبْتَدَعَ فِي الْبَاطِنِ، يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَقْوَامًا لَيْسُوا فِي الْبَاطِنِ مُنَافِقِينَ، بَلْ هُمْ فِي الْبَاطِنِ يُحِبُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ كَانُوا مُذْنِبِينَ،
فَمِنْ عُيُوبِ أَهْلِ الْبِدَعِ تَكْفِيرُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمِنْ مَمَادِحِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ يُخَطِّئُونَ وَلَا يُكَفِّرُونَ. شرح الطحاوية.
جواب السلف رحمهم الله :
أمة محمد اهل كتاب
ابن جرير الطبري | جامع البيان
قال الله عز وجل: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمة الله عليه: فتأويل الكلام: من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله، متمسكة به، ثابتة على العمل بما فيه وما سن لهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
وروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، كان عند بعض أهله ونسائه: فلم يأتنا لصلاة العشاء حتى ذهب ليلٌ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع، فبشَّرنا وقال: " إنه لا يصلي هذه الصلاة أحدٌ من أهل الكتاب " فأنـزل الله: " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. كذلك رواه أحمد وغيره.
وبسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله: " يتلون آيات الله آناء الليل " قال: صلاة العَتَمة، هم يصلُّونها، ومَنْ سِواهم من أهل الكتاب لا يصلِّيها.
قال أبو جعفر ابن جرير الطبري رحمة الله عليه: أولى الأقوال بتأويل الآية، قولُ من قال: عني بذلك تلاوة القرآن في صلاة العشاء. لأنها صلاة لا يصلِّيها أحد من أهل الكتاب، فوصف الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم يصلونها دون أهل الكتاب الذين كفروا بالله ورسوله. انتهى كلامه رحمه الله.
وعن نيار بن مكرم رضي الله عنه قال: لما نزلت الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ فَكانت فارسُ يومَ نزلت هذِهِ الآيةُ قاهرينَ للرُّومِ وَكانَ المسلمونَ يحبُّونَ ظُهورَ الرُّومِ عليْهم لأنَّهم وإيَّاهم أَهلُ كتابٍ وفي ذلِكَ قولُ اللَّهِ تعالى وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وكانت قريشٌ تحبُّ ظُهورَ فارسَ لأنَّهم وإيَّاهم ليسوا بأَهلِ كتابٍ ولاَ إيمانٍ ببعثٍ. صحيح الإسناد رواه الطبري.
***
لما قال المشركون: لله ولد، ولم يرجعوا عن مقالتهم بما أنزله الله على رسوله، عليه السلام، من التبرّؤ من ذلك- قال الله سبحانه لرسوله عليه السّلام: قُلْ: لهم إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ أي: عندكم في ادعائكم. فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي: أول الموحدين، ومن وحّد الله فقد عبده، ومن جعل له ولدا أو ندّا، فليس من العابدين، وإن اجتهد. تأويل مختلف الحديث.
Comments