حكم الله بين الإقرار والجحود
- جماعة المسلمين وإمامهم
- قبل 3 أيام
- 7 دقائق قراءة
حكم الله بين الإقرار والجحود
والخلل في الميزان الموجود
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله،
أما بعد،
عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى : " ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون "، قال: من جحد ما أنـزل الله فقد كفر. ومن أقرّ به ولم يحكم، فهو ظالم فاسقٌ.
قال أبو جعفر : إن الله تعالى عَمَّ بالخبر بذلك عن قومٍ كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكمَ، على سبيل ما تركوه، كافرون. وكذلك القولُ في كل من لم يحكم بما أنـزل الله جاحدًا به، هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حكم الله بعدَ علمه أنه أنـزله في كتابه، نظير جحوده نبوّة نبيّه بعد علمه أنه نبيٌّ.
فلنتدبر هذا الموضع جيدا يا مسلمين، فإنه من أعظم ما يكون نفعا و هداية إن شاء الله.
فكما أن طاعة الكافر قد تكون شركا وقد تكون معصية، كذلك الحكم بغير ما أنزل الله منه ما هو كفر ومنه ما هو معصية.
قال الله تعالى " وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ " فظاهر النص قد يفهم منه أن كل طاعة للكافر هي شرك، و لكن بالرجوع إلى الأدلة من الكتاب والسنة نعلم أن الطاعة تكون شركا إذا كانت في تحليل ما حرم الله، كما قال تعالى " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " أي أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم ، فتلك عبادتهم إياهم. وقد تكون معصية، إذا لم يستحل المطيع ما حرم الله. ومثال ذلك إتباع أبينا آدم عليه السلام وسوسة إبليس الكافر وأكله من الشجرة. قال الله تعالى " ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ".
كما أن عمل ما يطلبه الكافر يكون مباحا في التجارة وفي إطار العمل الحلال، بل يكون مأمورا به إذا كان في واجب كأداء الدين و مثابا عنه إذا كان في عمل البر، كأن يطلب منك والدك خدمة أو قدرا من المال ينتفع به.
فتبين أن عموم النص له من الأدلة ما يخصصه و يصرفه عن ظاهره إلى المعنى الحقيقي الذي ينبغي فهمه من الآية.
و كذلك عموم قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ظاهره العموم وحقيقة معناه أنه قد يكون كفرا أكبر و قد يكون كفرا أصغر. وعلى هذا يحمل قول إبن عباس رضي الله عنه كفر دون كفر، أي أنهما كفران، كفر أصغر على من أقر وكفر أكبر على من جحد.
أيضا يجب هنا التطرق إلى مسألتان :
أولا : أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين جحدوا حكما واحدا، ما يعني أن عدم الإقرار بحكم واحد من أحكام الله كفر مناقض للإسلام.
ثانيا، يجب معرفة معنى جحود الحكم وعدم الإقرار به. وقد ورد في سبب النزول عن أبي هريرة أنه قال: زنى رجل من اليهود وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بُعِث بتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا: " فُتْيَا نبي من أنبيائك "!! قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة، حتى أتى بيت مِدْراسهم، فقام على الباب فقال: أنشدُكم بالله الذي أنـزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمّم ويجبَّه ويجلد، وسكت شابٌّ [منهم]، فلما رآه سكت، ألظَّ به النِّشْدَةَ، فقال: اللهم إذ نشدتَنا، فإنا نجد في التوراة الرجْمَ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أوّل ما ارْتَخَصْتم أمر الله؟ قال: زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخَّر عنه الرجم. ثم زنى رجل في أسْرة من الناس، فأراد رَجْمَه، فحال قومه دونه وقالوا: لا ترجمْ صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه! فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة! فأمر بهما فرجما. قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نـزلت فيهم: " إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ".
والشاهد هنا، سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم علماءهم ( أنشدُكم بالله الذي أنـزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمّم ويجبَّه ويجلد ) والتحميم بمعنى التسويد أي تسويد الوجه بالحمم ، والتجبيه "، أن يحمل الزانيان على حمار، تُقَابل أقفيتهما، ويطاف بهما.
فهذا التبديل لحكم التوراة الذي هو الرجم و إتفاقهم على حكم وضعوه لأنفسهم، هو عينه الجحود المنافي للإقرار.
لذلك نسأل ، هل ما عليه قومنا هو جحود لحكم الله أو ليس جحودا ؟
سيقول قائل ليسوا جاحدين لأنهم يعلمون بأن الخمر حرام والزنا حرام و يقرون أن الله حرم الربا ... طيب، هل يجب أن يجحدوا كل ما أنزل الله حكما حكما لكي يسموا جاحدين ؟ طبعا لا، فالآية نزلت في جحد اليهود حكما واحدا. أليس كذلك ؟
لهذا فإقرار قومنا أن الله حرم الزنا والربا والخمر لا يعني إقرارهم بالإسلام، حتى يكونوا مقرين بكل ما أنزل الله، من ولاء وبراء و تكفير، وإمامة وجماعة وبيعة وهجرة وحاكمية...وغيرها من أحكام الله. و لا ينبغي لهذا الإقرار أن يكون كسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاء لم يجده شيئا، بل يكون الإقرار مشهودا عليه من أهل الجماعة الذين جعلهم الله شهداء على الناس، فيكون إقرار شاملا لكل ما أنزل الله من الأحكام، ويتوجب على أهل الجماعة بيان ما يجب الإقرار به، كي يصير المرء مسلما ويفارق دين القوم الكافرين.
لذلك عندما ندعو الناس، نبين لهم عقيدة الجماعة ومنهجها، وندعوهم لنطق الشهادة والبيعة على الإسلام، وبهذا يكونون مقرين بما وجب عليهم الإقرار به من التزام بالكتاب والسنة و لزوم الجماعة، وتكفير الفرق الضالة والبراءة منها وموالاة المؤمنين واتباع إمامهم والبيعة على ذلك.
فيكون الإقرار بنطق الشهادة باللسان والبيعة على الإسلام واجتناب ما يناقضها كالصلاة مع المشركين أو الرضى بالتحاكم إليهم.
وأما من أبى نطق الشهادة والإقرار بحكم الله الذي ندعو الناس إليه، فيكون جاحدا لحكم الله غير مقر به. كما قال ابن عباس : من جحد ما أنـزل الله فقد كفر.
ومن الطرف المقابل، نعلم أن الدستور الذي صوت عليه غالبية قومنا ورضوا به، لا يقر بحكم الله بل يتعامل مع الناس على أساس المواطنة وليس على أساس الدين. و لا يقر بحرمة التعبد في الأضرحة والقبور. ولا يكفر من يفعل ذلك ويتبرأ منه، و يعطل الحدود والقصاص و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما القليل الذين رفعوا شعار الدين، فأنتم ترون أحوالهم، فمنهم من اختاروا المناصب والاستوزار والنيابة في البرلمان، ولا يتغاضون عن القول بتقديسهم الديمقراطية والوطنية والمساواة بين الجنسين والحرية في التعبير والمعتقد. وهي شعارات ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب، لأنها كلها تنقض أصل الدين الذي أنزله رب الناس أجمعين. ومن لم يقل منهم ذلك صراحا، فإنه يستمر في الإنتساب إليهم ولا يتبرأ منهم ومن كفرهم وشركهم بواحا.
بل حتى أولئك الذين ينتسبون لطريق الدعوة، يجحدون حكم الله بتكفير المشركين، فيشتغلون في دعوة أهل الكتاب إلى فروع الشريعة، ويعدونهم مسلمين، ويتزوجون منهم و يآكلونهم ويساكنونهم ويآخونهم. وقد قال الله تعالى " إنما المؤمنون إخوة " ومنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقامة المسلم بين المشركين وأمره بهجرهم واعتزالهم قدر الإمكان. وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قيل يا رسول الله ولم ؟ قال لا تراءى ناراهما وقال من جامع مع المشرك وسكن معه فهو مثله.
فهؤلاء المنتسبون للدعوة لا يقرون أن أمة محمد أهل كتاب بل يحسبون الكافرين مسلمين ويصلون معهم و يوالونهم فيقاتلون في صفهم، ويصفون بالغلاة من حكم فيهم بحكم الله القاضي بتكفيرهم.
...
قال الله تعالى :
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
لقد أرسل إلينا ربنا تبارك وتعالى رسله بالدلائل القاطعة على صدق رسالته، و أنزل معهم الكتاب للعمل بما فيه من علم نافع دنيا و آخرة، و أنزل سبحانه الميزان المضبوط الذي ينصف كل طرف في كل نزاع. و بعد تبليغ الدعوة و إقامة الحجة، من الضروري إحقاق الحق وزجر المعاندين الظالمين، فقد أنزل الله الحديد الذي منه تصنع آلات الحرب ليتحقق نصر المؤمنين للدين، مع أنه القادر سبحانه على إهلاك المشركين بجنده في السماوات أو في الأرض أو بدونهم.
ان الذي خلق الميزان الذي يزن به أحدنا سلعته و مشترياته و يزن به الكيلوغرامات في جسده و هو ميزان دقيق لا يكاد يرجح كفة على كفة إلا اذا تعطل أو اسيء استعماله، هو سبحانه من خلق الميزان الذي تقاس به أعمال الإنسان، و يزن به القاضي ثقل الجريمة، و يعرف به من هو المظلوم ومن هو الظالم. و هذا الميزان أيضا دقيق و مضبوط ليس فيه مجال للشك أو التطفيف سواء تعلق الأمر بالمعاملات بين المسلمين فيما بينهم، أو في تعاملهم مع من دونهم من أهل كتاب أو مشركين .. ولكن هل العالم الآن يعتمد هذا الميزان في ما يسن من اتفاقيات دولية مثلا ؟ و بالخصوص تلك التي تجري بين الدول الإستعمارية و الدول النامية ؟ هل العالم الآن يزن بالميزان المضبوط في العلاقات بين الجنسيات والعرقيات المختلفة ؟ هل يقوم بالعدل بين الناس ؟
وددنا لو كان الجواب نعم، لكن الحقيقة أن العالم الآن عالم جائر لا يتعامل مع الناس بشكل متساوي، فمثلا سكان اوروبا و امريكا بإمكانهم زيارة كافة أنحاء العالم دون تأشيرة وبعملة منخفضة، و أما سكان العالم الثالث فمضطرون إلى الوقوف في أبواب السفارات من أجل الحصول على تأشيرة البلد أو عدم الحصول عليها. كذلك بالنسبة للدخل الفردي و فرص النجاح و تطوير الذات و فرص بلورة الافكار إلى مشاريع ملموسة، فتجد الواحد من هاته الدول يحصل على فرص أكبر بملايين المرات ممن سواهم.
قد يتوهم البعض ان ذلك ناتج عن فرط ذكاء و نباهة، لكننا نعلم أن الناس يولدون من بطون أمهاتهم متساوين، ثم تجدهم مختلفين بعد حين. فالأوروبي ينتعل الحذاء لبضع سنين و عندما تظهر موضة جديدة يرسلون أحذيتهم لينتعلها من لا يستطيعون ثمنها جديدة، في أوروبا الشرقية و إفريقيا وآسيا.
و الحق ان هذا كله له أصل، ألا هو الخلل الواقع في الميزان الذي يستعمله هؤلاء، فالاستعمار أيها الناس، نهب الموارد و استعبد الإنسان، تحت مسمى الحماية. والحقيقة أن سكان إفريقيا وآسيا لا يزالون يعانون من مخلفاته التي أبرمت في شكل إتفاقيات مزعومة. أقول مزعومة لأنها ترجح كفة تلك الدول و سوادها الإقتصادي على حساب الضعيف المظلوم الذي ليس له قوة يدفع بها عن نفسه الظلم. لهذا، بصفتنا سكانا لهذه الارض، و مستخلفين فيها فلا ينبغي لأحد منا أن يسكت لهذا الظلم والشر المستطير الذي لحقنا كمسلمين و لحق غير المسلمين.
فإن كان الإسلام يعطي لأهل الكتاب إمكانية البقاء على دينهم و ملتهم و لكنه لا يعطيهم الحق في الاعتداء على الغير و الحاق المضرة به، و ما دام الميزان المستعمل في القضاء الأرضي مختلا، فلن يزال الظلم قائما. فالله سبحانه لا يظلم أحدا في قضائه الشرعي و في قضائه القدري و هو المتنزه عن الظلم باسمه العدل و اسمه الحكيم الذي خلق كل شيء و قدره تقديرا، حتى ان للفقير حق على الغني ياخذه منه جبرا، لا حق للغني ان يمن او يؤذي من اخذ منه الحق الواجب، كما لا يحق له إيذاء من أخذ منه الصدقة النافلة.
قال ربنا : يا ايها الذين امنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى، وقال : و لا يظلم ربك احدا، وقال : و الكافرون هم الظالمون.
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما.
المستقوي بالله
جماعة المسلمين
Comments