الإكراه والضرورة والتقية والاستضعاف
- جماعة المسلمين وإمامهم
- قبل 15 دقيقة
- 12 دقائق قراءة
التفريق بين الإكراه والضرورة والتقية والاستضعاف
أولاً: الإكراه
الإكراه في الشريعة هو حمل الإنسان على فعل أو قول بغير اختياره، تحت وطأة أذى أو تهديد جديّ يخشى معه وقوع ضرر عظيم على النفس أو أحد الأعضاء أو المال المعصوم. وقد دل على اعتباره قوله تعالى:
﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: 106].
فنصَّ القرآن على أن الإكراه عذر يرفع الإثم إذا كان القلب ثابتًا مطمئنًا بالإيمان، حتى لو نطق اللسان بكلمة الكفر، كما حدث مع الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضي الله عنه لما عذبه المشركون حتى تابعهم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، فأنزل الله فيه هذه الآية، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عادوا فعد".
وقد ذكر المفسرون ذلك بوضوح، قال أبو جعفر الطبري رحمه الله:
"معنى الكلام: من كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أُكره فنطق بكلمة الكفر بلسانه، وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، موقنٌ بحقيقته، صحيح عليه عزمه، غير مفسوح الصدر بالكفر".
(تفسير الطبري، تفسير آية النحل: 106).
تعريف الإكراه عند العلماء:
قال الإمام الشافعي رحمه الله:
"وَالْإِكْرَاهُ أَنْ يَصِيرَ الرَّجُلُ فِي يَدَيْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ لِصٍّ أَوْ مُتَغَلِّبٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَيَكُونُ الْمُكْرَهُ يَخَافُ خَوْفًا عَلَيْهِ دَلَالَةٌ أَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ مِنْ قَوْلِ مَا أُمِرَ بِهِ يَبْلُغُ بِهِ الضَّرْبُ الْمُؤْلِمُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ إتْلَافُ نَفْسِهِ".
وقال الإمام مالك كما جاء في "المدونة":
"الإكراه هو الضرب والتهديد بالقتل والتخويف الذي لا شك فيه".
وقال محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله في "كتاب الإكراه":
فإن قال قائل : فما الوقت في الضرب الذي يكون إكراهاً؟
قيل: لما يجد منه الألم الشديد أو ما يخاف منه تلف النفس أو تلف بعض الأعضاء. وأما الحبس والتقييد فليس فيهما أيضاً عندنا حد نحده، ولكن على ما يجيء منه الاغتمام البين بالحبس والتقييد، ولسنا نعرف من هذا الحد الذي لا يزاد عليه ولا ينقص منه. وذلك على ما يرى الحاكم إذا رفع ذلك إليه، فما رأى أنه كَرْه جعله كَرْهاً.
وقال: ولو أن هؤلاء الذين ذكرت لك من اللصوص الغالبين أو غيرهم قالوا ذلك لرجل في بعض ما وصفنا والرجل يرى أنهم لا يقدمون عليه بذلك لم يجز هذا له؛ لأن هذا إنما يجوز للإنسان على قدر ما يقع في قلبه، فإن وقع في قلبه أن القوم يقدمون على ما يهددونه به فعل، وإن كان الواقع في قلبه أن القوم لا يقدمون عليه بما قالوا فليس يسعه أن يقدم على شيء من ذلك.
من ضوابط الإكراه الشرعي:
• أن يكون التهديد حقيقيًا لا مجرد وهم أو خوف موهوم.
• أن يغلب على المكرَه الظن بتنفيذ التهديد.
• أن يقع تحت سلطان من لا يستطيع دفعه.
أقسام الإكراه:
• الإكراه الملجئ: كالإكراه بالقتل أو قطع عضو أو تعذيب لا يطاق، وهذا الذي يعد إكراها معتبرا في أحكام القضاء الإسلامي.
• الإكراه غير الملجئ: كالتخويف اليسير أو الإضرار البسيط، ولا تترتب عليه رخصة.
الفرق بين الإكراه على الكفر وغيره من المحرمات:
قال محمد بن الحسن رحمه الله:
ولو أن رجلاً أكره فقيل له: لنقتلنك أو لتكفرن بالله، فأبى أن يكفر حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه لم يكن هذا بإثم عندنا؛ لأن الكفر في هذا الموضع إنما هو رخصة لموضع الإكراه، فإن قبل رخصة الله وسعه ذلك، وإن لم يقبل حتى يقتل فهو أفضل.
ثم قال: كل أمر حرمه الله تعالى ولم يجئ فيه إحلال إلا أن فيه رخصة للمكره فأبى أن يأخذ بالرخصة حتى قتل فهو في سعة وإن كان يعلم أن الرخصة تسعه. وكل أمر أحله الله عز وجل في مثل ما أحل في الضرورة من الميتة ولحم الخنزير وفي المرض والسفر في الصوم فلم يفعل الرجل ما أحل الله تعالى له في الضرورة والمرض والسفر حتى مات أو قتل فهو آثم؛ لأن الأول الذي فيه الرخصة أراد بتركه الرخصة أن يعز الدين، فهو في ذلك مأجور. وهذا الوجه الآخر قد أحل الله تعالى له ذلك في حال الضرورة والمرض والسفر، وليس في ذلك إعزاز الدين؛ لأن الله تعالى حين أحله في تلك الحال صار بمنزلة ما أحله الله تعالى في غير تلك الحال، ومن لم يقبل ما أحل الله تعالى له صار عندنا آثماً.
من فقه السلف:
• قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
"ما من كلام أتكلم به يدرأ عني ضربتين بسوط عند ذي سلطان إلا كنت متكلمًا به" (رواه محمد بن الحسن في "كتاب الإكراه").
• وقال شريح القاضي رحمه الله:
"القيد كَرْه، والوعيد كَرْه، والضرب كَرْه، والسجن كَرْه".
أمثلة عملية على الإكراه:
• رجل أُكره على النطق بالكفر تحت تهديد القتل: جاز له النطق وقلبه مطمئن بالإيمان.
• رجل هُدد بقطع يده إن لم يشرب الخمر: جاز له الشرب دفعًا للتلف.
• رجل هُدد بضرب غير مبرح أو يوم واحد في السجن: لا يجوز له النطق بالكفر ولا ارتكاب الحرام إذا كان يطيق تحمّل ذلك.
تنبيه:
الإكراه لا يرفع الكفر إلا بشروطه، ومن ادعى الإكراه فعليه أن يثبت تحقق الشروط المعتبرة شرعًا، وإلا كان مرتكبًا للكفر طوعًا لا كرها.
خلاصة:
الإكراه الشرعي هو إجبار على المحرم مع الاذى او التهديد الجدي وخوف متحقق، ويُرخص فيه النطق بالكفر دون اعتقاده، ويفرق بينه وبين الضرورة بأن الإكراه يكون بسبب خارجي، بينما الضرورة عندنا أعم من ذلك، وسنبينه فيما يلي.
قال الله تعالى:
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].
وذكر محمد بن الحسن معنى خاصا للضرورة يحصرها في ما اتلف النفس والاعضاء والاختلاف في هذا الموضع اصطلاحي، لا يمس بجوهر القضية.
قال رحمه الله: إن قيل له لنضربنك مائة سوط أو لتقرن له بألف درهم فأقر له بها فالإقرار باطل. وكذلك لو قالوا له: لنحبسنك حتى تقر له أو لنقيّدنك حتى تقر له، فأقر له فالإقرار باطل. ولا يشبه هذا في الحبس والتقييد ما وصفت لك قبله من شرب الخمر وأكل الميتة وغير ذلك؛ لأن ذلك إنما يحل بالضرورة، وهذا يبطل بالإكراه وإن لم يكن فيه ضرورة.
وقال ايضا: وإن أكره الرجل بسجن أو بتقييد أو بضرب لا يخاف منه تلف على أن يزني بامرأة مطاوعة أو مستكرهة فليس يحل له أن يفعل هذا، فإن فعل فهو آثم، وعليه الحد. لا يدرأ الحد إلا في الضرورة التي يخاف منها التلف أو تلف بعض الأعضاء، فأما الإكراه بالسجن ونحوه فهذا لا يحل له الإقدام على الزنى من أجله. ولو أنه امتنع من الزنى وقد تهدد بالقتل والمرأة له مطاوعة أو مستكرهة حتى قتل كان مأجوراً في ذلك.
****
ثانيًا: الضرورة
الضرورة في الشريعة هي حالة استثنائية يرتفع فيها الحكم الشرعي الأصلي مؤقتًا لعجز المكلف عن تطبيقه، اما بسبب خوفه على نفسه أو بدنه من الهلاك والتلف، أو بسبب تعذر تحقق شروط التكليف مع بقاء الحكم على حاله، بحيث يعود الحكم إلى أصله بزوال المانع.
قال الله تعالى:
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 173].
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسيره:
يعني تعالى ذكره بقوله: " فمن اضطر "، فمن حَلَّت به ضَرورة مجاعة إلى ما حرَّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل به لغير الله -وهو بالصفة التي وصفنا- فلا إثم عليه في أكله إن أكله.
وقال أيضًا:
"ومعنى (اضطر) افتعل من الضرورة، وقد قيل إن معنى (اضطر) فمن أُكره على أكله فأكله فلا إثم عليه".
تعريف الضرورة:
للضرورة تعريفان عند العلماء:
١. بلوغ الإنسان حدًّا يخشى فيه هلاك نفسه، أو تلف عضو من أعضائه، أو فساد حاله فسادًا لا يرجى بعده صلاحه، فيباح له المحظور بقدر ما يدفع عنه الضرر.
٢. الحال التي يباح فيها ما لا يباح في الأصل لوجود مانع يمنع من وقوع التكليف على أصله من عجز او تعذر او مفسدة.
ضوابط الضرورة:
• أن تكون الضرورة حقيقية محققة، لا مجرد وهم أو شك.
• أن يكون المكلف كارها للحرام، غير مستحله.
• أن يُقتصر على قدر الحاجة دون تجاوز.
• أن تعود الأحكام إلى أصلها بزوال الضرورة.
أمثلة شرعية على الضرورة:
• أكل الميتة وشرب الخمر لمن خشي الهلاك جوعًا أو عطشًا:
قال الله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 173].
• نكاح الإماء لمن خشي العنت وعجز عن نكاح الحرائر:
قال تعالى: وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ ۚ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النساء : 25]
قال الشافعي في "الأم":
فَإِذَا اجْتَمَعَ أَنْ لَا يَجِدَ طَوْلًا لِحُرَّةٍ وَأَنْ يَخَافَ الزِّنَا حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَإِنْ انْفَرَدَ فِيهِ أَحَدُهُمَا لَمْ يَحْلِلْ لَهُ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَا يَجِدُ طَوْلًا لِحُرَّةٍ وَهُوَ لَا يَخَافُ الْعَنَتَ أَوْ يَخَافُ الْعَنَتَ وَهُوَ يَجِدُ طَوْلًا لِحُرَّةٍ إنَّمَا رُخِّصَ لَهُ فِي خَوْفِ الْعَنَتِ عَلَى الضَّرُورَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَشِقَ امْرَأَةً وَثَنِيَّةً يَخَافُ أَنْ يَزْنِيَ بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا؟ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَعَشِقَ خَامِسَةً لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُهَا إذَا تَمَّ الْأَرْبَعُ عِنْدَهُ أَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فَعَشِقَ أُخْتَهَا لَمْ يَحْلِلْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا مَا كَانَتْ عِنْدَهُ أُخْتُهَا وَكَذَلِكَ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ مِنْ النِّكَاحِ مِنْ أَيِّ الْوُجُوهِ حَرُمَ لَمْ أُرَخِّصْ لَهُ فِي نِكَاحِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ خَوْفَ الْعَنَتِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ عَلَيْهِ يَحِلُّ لَهُ بِهَا النِّكَاحُ وَلَا ضَرُورَةَ فِي مَوْضِعِ لَذَّةٍ يَحِلُّ بِهَا الْمُحَرَّمُ إنَّمَا الضَّرُورَةُ فِي الْأَبَدَانِ الَّتِي تَحْيَا مِنْ الْمَوْتِ وَتُمْنَعُ مِنْ أَلَمِ الْعَذَابِ عَلَيْهَا وَأَمَّا اللَّذَّاتُ فَلَا يُعْطَاهَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَا تَحِلُّ بِهِ.
• الحج عن العاجز :
قال الشافعي: وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي أَنَّ رَجُلًا لَوْ حَجَّ عَنْ رَجُلٍ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ لَا يُجْزِي عَنْهُ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ هَكَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا عُذِرَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ بِتَأْدِيَةِ الْفَرْضِ وَمَا جَازَ فِي الضَّرُورَةِ دُونَ غَيْرِهَا، لَمْ يُجْزِ، مَا لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةً مِثْلَهُ.
• اجتهاد المجتهد عند عدم وجود نص صريح: ضرورة تقتضي العمل بالقياس للوصول للحكم الشرعي.
قال الشافعي في الرسالة: ونحكم بالإجماع ثم القياسِ وهو أضعف من هذا ولكنها منزلةُ ضرورة لأنه لا يحل القياسُ والخبرُ موجودٌ.
• اجتهاد العامي عند عدم وجود مفتٍ: أن يعمل بما يغلب على ظنه صوابه حتى يجد من يسأله.
• شهادة رجل وامرأتين بدل رجلين: بسبب تعذر وجود رجلين في بعض الحالات.
قال تعالى: فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ
• افتداء المأسور وخوف الاصطلام
مختصر المزني: وأنّ الإسْلامَ أعَزُّ مِنْ أن يُعْطَى مُشْرِكٌ على أن يَكُفَّ عن أهْلِه؛ لأنّ أهْلَه قاتِلِين ومَقْتُولِين ظاهِرُون على الحَقِّ، إلّا في حالٍ يَخافُون فيها الاصْطِلامَ، فيُعْطُون مِنْ أمْوالِهِم، أو يَفْتَدِي مأسُورًا فلا بَأسَ؛ لأنّ هذا مَوْضِعُ ضَرُورَة.
• عقر الفرس اذا خشي ان يأخذه العدو
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ فِي الْحَرْبِ فَعَقَرَ رَجُلٌ فَرَسَهُ رَجَوْت أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ بَأْسٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَةٌ، وَقَدْ يُبَاحُ فِي الضَّرُورَاتِ مَا لَا يُبَاحُ فِي غَيْرِ الضَّرُورَاتِ
• قتال العدو الأبعد مع وجود الأقرب
مختصر المزني: ويَبْدَأ الإمامُ بالقِتالِ مَنْ يَلِيه مِنْ الكُفّارِ وبالأخْوَفِ، فإن كان الأبْعَدُ أخْوَفَ .. فلا بَأسَ أن يَبْدَأ به على مَعْنَى الضَّرُورَةِ التي يَجُوزُ فيها ما لا يَجُوزُ في غَيْرِها
• لبس الثوب المحرم افضل من العري
ابن القاسم: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الْحَادَّ إذَا لَمْ تَجِدْ إلَّا ثَوْبًا مَصْبُوغًا أَتَلْبَسُهُ وَلَا تَنْوِي بِهِ الزِّينَةَ أَمْ لَا تَلْبَسُهُ؟
قَالَ: إذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ تَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ وَالِاسْتِبْدَالِ بِهِ لَمْ أَرَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَهُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا تَجِدُ الْبَدَلَ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَلْبَسَهُ إذَا اُضْطُرَّتْ إلَيْهِ لِعُرْيٍ يُصِيبُهَا وَهَذَا رَأْيِي لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ فِي الْمَصْبُوغِ كُلِّهِ الْجِبَابِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ الْأَخْضَرِ وَالْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ: إنَّهَا لَا تَلْبَسُهُ إلَّا أَنْ تُضْطَرَّ لَهُ، فَمَعْنَى الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ تَجِدْ الْبَدَلَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ تَجِدُ الْبَدَلَ فَلَيْسَتْ مُضْطَرَّةً إلَيْهِ.
تنبيه مهم:
• الضرورة لا تبيح المحظور إلا بمقدار ما تدفع به الضرر.
• إذا زالت الضرورة وجب الرجوع إلى الحكم الأصلي.
• من احتاج إلى أكل الميتة فأبى حتى مات، فهو آثم، لأن الله أحل له ذلك في حال الضرورة.
****
ثالثًا: التقية
التقية في الشريعة هي: إظهار المسلم خلاف ما يبطنه دفعًا لضرر يخشى حصوله على النفس أو المال أو العرض، مع بقاء الإيمان ثابتًا في القلب، وهي من الرخص المشروعة في حالات الخوف الشديد.
قال الله تعالى في الآية المدنية:
﴿لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: 28].
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله:
"إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل".
أنواع التقية:
• التقية بالنطق بالكفر:
جائزة عند الإكراه (كعمار بن ياسر رضي الله عنه لما أُكره). كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: "إن عادوا فعد"
(رواه الطبري).
• التقية باللطف في القول مع بقاء العداوة القلبية:
تشرع لمن كان من المسلمين في دار حرب تحت سلطان الكفار، مع وجود الحرب بين المسلمين والكفار فيخفون بغضهم ويكتمون ولاءهم للمؤمنين.
• التقية بالتعريض في الكلام:
أن يقول كلامًا يحتمل أكثر من معنى، بحيث يقصد به معنى صحيحًا، ويتوهم السامع خلافه، لدفع الضرر دون الكذب أو الإثم.
عن ابن عباس في قوله: " إلا أن تتقوا منهم تقاة "، فالتقية باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله، فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن ذلك لا يضره. إنما التقية باللسان.
وقال مجاهد: إلا مصانعةً في الدنيا ومُخالقة.
(تفسير الطبري).
خلاصة:
التقية مشروعة لدفع الضرر عن النفس مع الحفاظ على الإيمان في القلب، ولا تكون إلا بقدر الحاجة وبنية صحيحة، وقت الاستضعاف. قال الله تعالى:
﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: 28].
****
رابعًا: الاستضعاف
الاستضعاف هو: القهر والغلبة بالقوة والمنعة، بحيث لا يستطيع دفعهم أو مخالفة أمرهم ويكون حكمهم نافذا فيه.
أنواع المستضعفين في القرآن:
• جماعة مستضعفون مضطرون:
القول في تأويل قوله : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
قال أبو جعفر: وهذا تذكيرٌ من الله عز وجل أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناصحة. يقول: أطيعوا الله ورسوله، أيها المؤمنون, واستجيبوا له إذا دعاكم لما يحييكم، ولا تخالفوا أمرَه وإن أمركم بما فيه عليكم المشقة والشدة, فإن الله يهوِّنه عليكم بطاعتكم إياه، ويعجِّل لكم منه ما تحبون, كما فعل بكم إذ آمنتم به واتبعتموه وأنتم قليلٌ يستضعفكم الكفار فيفتنونكم عن دينكم، وينالونكم بالمكروه في أنفسكم وأعراضكم، تخافون منهم أن يتخطفوكم فيقتلوكم ويصطلموا جميعكم =(فآواكم)، يقول: فجعل لكم مأوى تأوون إليه منهم =(وأيدكم بنصره)، يقول: وقواكم بنصره عليهم حتى قتلتم منهم من قتلتم ببدر=(ورزقكم من الطيبات)، يقول: وأطعمكم غنيمتهم حلالا طيبًا =(لعلكم تشكرون)، يقول: لكي تشكروه على ما رزقكم وأنعم به عليكم من ذلك وغيره من نعمه عندكم.
• مسلمون مستضعفون معذورون:
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء : 98]
ثم استثنى جل ثناؤه المستضعفين الذين استضعفهم المشركون=" من الرجال والنساء والولدان "، وهم العجزة عن الهجرة= بالعُسْرة، وقلّة الحيلة، وسوء البصر والمعرفة بالطريق= من أرضهم أرضِ الشرك إلى أرض الإسلام
القول في تأويل قوله : وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: " وما لكم " أيها المؤمنون =" لا تقاتلون في سبيل الله "، وفي" المستضعفين "، يقول: عن المستضعفين منكم =" من الرجال والنساء والولدان "، فأما من " الرجال "، فإنهم كانوا قد أسلموا بمكة، فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم، وآذوهم، ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم ليفتنوهم عن دينهم، فحضَّ الله المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من الكفار، فقال لهم: وما شأنكم لا تقاتلون في سبيل الله، وعن مستضعفي أهل دينكم وملتكم الذين قد استضعفهم الكفار فاستذلوهم ابتغاء فتنتهم وصدِّهم عن دينهم؟" من الرجال والنساء والولدان " = جمع " ولد ": وهم الصبيان =" الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها "، يعني بذلك أن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، يقولون في دعائهم ربَّهم بأن ينجييهم من فتنة من قد استضعفهم من المشركين: " يا ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ".
• مستضعفون منتسبون للإسلام لم يقبل عذرهم :
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " إن الذين توفَّاهم الملائكة "، إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة =" ظالمي أنفسهم "، يعني: مكسبي أنفسهم غضبَ الله وسخطه.
" قالوا فيم كنتم "، يقول: قالت الملائكة لهم: " فيم كنتم "، في أيِّ شيء كنتم من دينكم " قالوا كنا مستضعفين في الأرض "، يعني: قال الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: " كنا مستضعفين في الأرض "، يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم، فيمنعونا من الإيمان بالله، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، معذرةٌ ضعيفةٌ وحُجَّة واهية=" قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها "، يقول: فتخرجوا من أرضكم ودوركم، وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، إلى الأرض التي ; يمنعكم أهلها من سلطان أهل الشرك بالله، فتوحِّدوا الله فيها وتعبدوه، وتتبعوا نبيَّه؟ يقول الله جل ثناؤه: " فأولئك مأواهم جهنم "، أي: فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" مأواهم جهنم "، يقول: مصيرهم في الآخرة جهنم، وهي مسكنهم " وساءت مصيرًا "، يعني: وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها " مصيرًا " ومسكنًا ومأوى.
• مستضعفون تابعون للكفار:
قال الطبري: وقوله ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) يتلاومون، يحاور بعضهم بعضًا؛ يقول المستضعفون، كانوا في الدنيا، للذين كانوا عليهم فيها يستكبرون: لولا أنتم أيها الرؤساء والكبراء في الدنيا لكنا مؤمنين بالله وآياته.
يقول تعالى ذكره: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) في الدنيا، فرأسوا في الضلالة والكفر بالله (لِلَّذِينّ اسْتُضْعِفُوا) فيها فكانوا أتباعًا لأهل الضلالة منهم إذ قالوا لهم لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ : (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى) ومنعناكم من اتباع الحق (بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ) من عند الله يبين لكم (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) فمنعكم إيثاركم الكفر بالله على الإيمان من اتباع الهدى، والإيمان بالله ورسوله.
يقول تعالى ذكره: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) من الكفرة بالله في الدنيا، فكانوا أتباعًا لرؤسائهم في الضلالة (لِلَّذِينّ اسْتَكْبَرُوا) فيها، فكانوا لهم رؤساء (بَلْ مَكْرُ) كم لنا بـ(اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) صدنا عن الهدى ( إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ ) أمثالا وأشباهًا في العبادة والألوهة.
خلاصة:
الاستضعاف حالة يعذر فيها المسلم بشروط وضوابط، مع بقاء وجوب التوحيد والعمل بالفرائض والسعي المستمر لتغيير المنكر والخروج إلى دار الإسلام متى ما تيسر، ولا يجوز اتخاذ الاستضعاف ذريعة لترك الجماعة أو موافقة الكفار على دينهم.
خاتمة جامعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الطيبين، ورضي الله عن صحبه أجمعين.
بعد التأمل في النصوص الشرعية وكلام أئمة السلف والعلماء المحققين، يظهر لنا أن الإكراه والضرورة والتقية والاستضعاف كلها أحوال رخصت فيها الشريعة تخفيفًا عن المكلفين، ولكن لكل واحد منها حقيقته وضوابطه:
• الإكراه:
هو إجبار الإنسان على فعل أو قول شيء بغير اختياره، بتهديد معتبر شرعًا كالقتل أو قطع عضو أو ضرب مؤلم أو سجن طويل، مع غلبة الظن بتحقق الوعيد.
• الضرورة:
هي حالة يمتنع فيها تحقيق الحكم الأصلي لعجز أو مفسدة أو خوف هلاك النفس أو تلف عضو أو مال، فتبيح ما كان محرمًا في الأصل، بقدر الحاجة.
• التقية:
هي إظهار خلاف ما يبطنه المسلم لدفع ضرر عن نفسه أو ماله أو عرضه، بشرط بقاء القلب ثابتًا على الإيمان، وعدم تولي الكفار في الدين، بل مع كتمان العداوة لهم ومولاة المؤمنين.
• الاستضعاف:
هو وقوع الانسان تحت سلطان غيره وإخضاعه لإرادته وعجز المسلم عن إظهار دينه أو الهجرة من دار الكفر بسبب القهر والغلبة.
قاعدة ختامية:
كلما أمكن الجمع بين تحقيق التكليف الشرعي ودفع المفسدة دون الوقوع في المحرم كان ذلك واجبًا، وإن تعذر، فالتكليف معلق بالاستطاعة، لقوله تعالى:
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].
هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
Comments