الفرقان المبين في معرفة مصادر الدين
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على نبينا المصطفى،
أما بعد،
فقد بينا في الخطبة الماضية بفضل من الله أن القرآن الكريم هو مصدر الحقائق المطلقة التي لا يتطرق إليها الشك ولا الخطأ، وهو الكتاب الكامل الحكيم الإمام الهادي للتي هي أقوم وبشير المؤمنين و خير الكلام. من تكلم به صدق، و من عمل به نجا و من به تطمئن القلوب. من تعلمه و علمه كان خير الناس، ومن تدارسه في بيت من بيوت الله نزلت عليه السكينة و غشيته الرحمة و حفته الملائكة و ذكره الله فيمن عنده. قراءة حرف منه بحسنة و الحسنة بعشر امثالها، لا اقول الم حرف، و لكن ألف حرف و لام حرف و ميم حرف.
قال الله تعالى :
ألم . ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
وقال :
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ
إن تعليم القرآن العظيم والعمل به هو وظيفة خير الخلق، ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله عز وجل :
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
وقال :
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
و نسمي القرآن دليلا، و حجة وبرهان لأنه كله صحيح و ليس فيه أدنى شك أو خطأ. لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا
والآية في القرآن الكريم هي الحجة والدليل، ومن ذلك قوله تعالى: {ومن آياته منامكم بالليل والنهار}، أي من أدلته و حججه عليكم. ونحو ذلك قوله سبحانه: {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة}، أي: ومن حجج الله تعالى وأدلته على قدرته، أنك ترى الأرض لا نبات بها ولا زرع، ثم الله يحييها بالغيث.
فتبين أن كل آية من القرآن الكريم انما هي حجة ودليل يستدل به على صحة الشيء أو خطأه، فما وافق القرآن فصحيح و ما خالفه فخطأ. فالقرآن هو فرقان ما بين الحق و الباطل وهو الميزان الذي توزن به الأعمال، و هو الخلق العظيم والكتاب المبارك والنور المبين والحكم العادل والذكر الحكيم والصراط المستقيم وحبل الله الممدود من السماء والعروة الوثقى لا انفصام لها و هو حق اليقين.
وبنفس اليقين، تستمد السنة النبوية حجيتها من القرآن الكريم فقد قال الله تعالى " من أطاع الرسول فقد أطاع الله " " و ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " ، " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " ، " قل أطيعوا الله و الرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ".
فكيف نطيع الله ونطيع الرسول و نحن لا ينزل على أحدنا الوحي و الرسول صلى الله عليه وسلم مات منذ أزيد من ألف و أربعمئة سنة ؟؟؟
فطاعة الله تكون باتباع كلامه و طاعة الرسول تكون باتباع سنته صلى الله عليه وسلم. والسنة مفسرة للقرآن، فقد قد قال الله تعالى أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة، ولا سبيل لمعرفة طريقة أداء الصلوات، وأركانها و واجباتها وسننها و مواقيتها و جميع تفاصيلها إلا بالسنة. فلولا السنة ما عرف المصلي أيصلي الظهرا أربعا أم خمسا أم خمسين ركعة ! وأيضا لا سبيل لمعرفة مقدار الزكاة ولاطريقة الغسل ولا حد شارب الخمر وغيرها من الفرائض إلا بالسنة.
وقد تكفل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم حيث قال " إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون " وهذا الحفظ للقرآن الكريم يقتضي حفظ اللفظ وحفظ المعنى، وحفظ معنى القرآن يقتضي حفظ السنة النبوية الشريفة.
و قد انبرى بتوفيق الله ورعايته لهذا الدين، علماء الحديث على مر العصور لحفظ السنة. حيث اهتموا بعلوم الحديث و الجرح والتعديل والروياة والدراية، فميزوا حسن الحديث وصحيحه من ضعيفه وموضوعه، ودرسوا أحوال الرواة و مشايخهم و جلساءهم و معاصريهم وامتحنوا حفظ الراوي وعدالته و لم يبقوا بابا من أبواب الشك في سنة رسول الله إلا أغلقوه جزاهم الله عنا خير الجزاء.
وبهذا يتبين أن القرآن والسنة هي أدلة و حجج وبراهين، يجب الإستدلال بها على صحة الأقوال و الأعمال و المعتقدات.
وينضاف إليهما مصدر ثالث من مصادر الحجج والبراهين وهو إجماع المسلمين و على رأسهم الصحابة الذين أمر الله تعالى باتباع سبيلهم، وتوعد من خالفها بجهنم وبيس المصير، و أمر بالإيمان بمثل ما آمنوا به و وعد الذين اتبعوهم بإحسان بالجنة و الرضوان.
فقد دل على حجية الإجماع أدلة كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية و منها قوله تعالى " وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ". فدل ذلك على وجوب اتباع ما أجمعوا عليه.
وقوله تعالى " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا " فجعل الله جماعة المسلمين و إمامهم شهداء على الناس ، و هذا يقتضي حجية شهادتهم، فمن شهدوا له بالخير وجبت له الجنة، و من شهدوا له بالشر وجبت له النار، كما دل على ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكيف تكون شهادة جماعة المسلمين موجبة للجنة و النار إذا كانت ليست بحجة و دليل، و الصحابة رضوان الله عليهم هم خير أهل الجماعة و أعلمهم وأتقاهم وأكرمهم عند الله تعالى.
وقد روى الترمذي، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ ).
وروى ابن أبي عاصم في " السنة : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَارَ أُمَّتِي أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ ) ".
لقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على إمامة أبي بكر بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف، و أجمعوا على إمامة عمر و قد استخلفه أبو بكر رضي الله عنهما. فأجمع الصحابة على إمامتهما و أجمعوا على جواز الإستخلاف و جواز عدم الإستخلاف.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قيل لعمر ألا تستخلف قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليتبين لك أهمية الإجماع و حاجة المسلمين إليه في الإعتقاد و الفقه تدبر هذا الموضع جيدا :
قال الله تعالى " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ " ولم يسم الخليفة.
و في الحديث الذي رواه مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: "مَرِضَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. و روى أحمد ، والترمذي، والحاكم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ )، وأيضا روى البخاري في صحيحه عن إبراهيم بن سعد عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى).
فهذه ثلاث أحاديث كل منها يمكن فهمه على أنه استخلاف. و تزعم الرافضة وهي من الفرق الضالة الذين كفروا من أهل الكتاب من هذه الأمة، يزعمون أن حديث المنزلة المذكور دليل على أن علي بن أبي طالب أحق بالخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أبي بكر رضي وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين.
لكن ما الذي يفصل في المسألة ويدل على أن أبا بكر هو الأحق بالخلافة ؟؟
يدل عليه إجماع الصحابة، ولولا الإجماع على بيعة أبي بكر إماما للمسلمين، لما استطاع المسلمون أن يميزوا من هو الإمام بالاستناد للكتاب و السنة فقط، لأن ليس فيها تحديد من هو الخليفة الراشدي الأول.
فهذا مثال على حاجة الأمة لإجماع الصحابة وحجيته في الأحكام والعقائد، ولا يوجد شيء اجتمعوا عليه يخالف للكتاب و السنة بتاتا، فلعل هذا وحده يكفي لإضحاض مزاعم من قالوا أن الإجماع ليس حجة.
و الإجماع رحمكم الله إما أن يكون باتفاق أقوال الصحابة رضوان الله عليهم في مسألة ما و إما أن يكون بقول الصحابي الواحد إذا اشتهر و لم يكن له مخالف، و يسمى إجماعا سكوتيا. مثلا اذا قَالَ الْوَاحِد مِنْهُم قولا اَوْ اكثر من الْوَاحِد كالاثنين وَالثَّلَاثَة واشتهر ذَلِك بَين البَاقِينَ وَلم ينكروه وَلَا ظهر مِنْهُم مُوَافقَة لذَلِك الْقَائِل بقول اَوْ فعل وَلَا انكار.
فهذه المصادر الثلاثة الكتاب و السنة الصحيحة و الإجماع هي ما يستدل به على الدين كله ، وفيها من العلم والعمل ما يكفي لتوحيد الله و عبادته وحده لا شريك له، و هذا أول وأهم ما دعت إليه الرسل منذ آدم عليه السلام وهو ما ندعو إليه قومنا، إلى عبادة الله و أن لا يشركوا به شيئا، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وإن الشرك لظلم عظيم.
...
عباد الله،
لقد تطرقنا وإياكم في الخطبة الأولى إلى مصادر الدين اليقينية التي لا يمكن أن يحصل فيها الخطأ أو الشك أو التناقض أو الإختلاف، وهي الكتاب و السنة الصحيحة والإجماع.
وأقوال الصحابة التي لا مجال فيها للإجتهاد وإنما تعرف بالخبر، كالأمور الغيبية التي مصدرها الوحي فقط ، فإنها تأخذ حكم الحديث المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم و تكون دليلا و حجة.
ثم يأتي بعدها مباشرة مصدر صحيح، قوي وموثوق للتشريع وهو القياس و الإجتهاد وأقوال الصحابة في الأمور الإجتهادية.
لقد جعل الله تعالى الإيمان بمثل ما آمن به الصحابة هداية، فقال " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا " و قال "و إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس " يعني آمنوا كما آمن الصحابة، و قد شهد لهم الله تعالى بالإيمان وقت نزول القرآن فقال " آمن الرسول بما انزل اليه من ربه و المؤمنون " وقال تَعَالَى {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة} وَقال {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} وَمن كَانَ مرضيا عَنهُ كَيفَ لَا يقْتَدى بِفِعْلِهِ وَيتبع فِي قَوْله.
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنا أمنة أصحابي ، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ). رواه مسلم
والصحابة رضوان الله عليهم لا يختلفون في أصول الدين و في التوحيد، ولكن قد يختلفون في الأمور الإجتهادية التي لا تخرج من الإيمان إلى الكفر، والمجتهد فيها يكون مأجورا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر).
ومن الأمثلة على ذلك ما رواه الطبراني عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ : " أَنَّهُ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، طَالَمَا أَضْلَلْتَ النَّاسَ ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا عُرَيَّةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ يَخْرُجُ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ، فَإِذَا طَافَ، زَعَمْتَ أَنَّهُ قَدْ حَلَّ ، فَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَنْهَيَانِ عَنْ ذَلِكَ ؟. فَقَالَ ابن عباس : أَهُمَا، وَيْحَكَ، آثَرُ عِنْدَكَ أَمْ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ وَفِي أُمَّتِهِ؟.
وروى أَحْمَد قال : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ قَالَ: وسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ ، فَأَمَرَ بِهَا .فَقِيلَ لَهُ: إنَّك تُخَالِفُ أَبَاك ؟! فَقَالَ: عُمَرُ لَمْ يَقُلْ الَّذِي تَقُولُونَ ، إنَّمَا قَالَ عُمَرُ: إفْرَادُ الْحَجِّ مِنْ الْعُمْرَةِ ، فَإِنَّهَا أَتَمُّ لِلْعُمْرَةِ ، أَوْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتِمُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَّا أَنْ يُهْدَى. وَأَرَادَ أَنْ يُزَارَ الْبَيْتُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَجَعَلْتُمُوهَا أَنْتُمْ حَرَامًا ، وَعَاقَبْتُمْ النَّاسَ عَلَيْهَا ؛ وَقَدْ أَحَلَّهَا اللَّهُ ، وَعَمِلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ !! فَإِذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: أَفَكِتَابَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا أَمْ عُمَرُ؟ يقصد بكتاب الله قوله تعالى" فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ".
فأقْوَال أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تفَرقُوا فِيهَا نرجح بينها بمَا كان أوَفق للْكتاب و السّنة و الْإِجْمَاع و كَانَ أصح فِي الْقيَاس وَإِذا قَالَ وَاحِد مِنْهُم القَوْل لَا يعرف عَن غَيره مِنْهُم لَهُ مُوَافقَة وَلَا خلافًا نصير إلى اتِّبَاع قَول الصحابي الوَاحِد.
وقد اجتهد الصحابة في الوقائع التي لا يوجد فيها نص من القرآن والسنة وقاسوا ما لا نص فيه على ما فيه نص ويعتبرون النظير بنظيره ، فقد قاسوا خلافة أبي بكر على إمامة الصلاة ، وبايعوا أبا بكر بها وأظهروا أن القياس هو : رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا ، أفلا نرضاه لدنيانا.
و دل على مشروعية القياس، قوله تعالى " نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون "
فهذه الآية وقع فيها الاحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث بالقياس على النشأة الأولى.
ويدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله قال أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله.
وأجتهد رأيي، أي أبذل الوسع في طلب الأمر بالقياس على كتاب أو سنة، وليس معناه الرأي المجرد المخالف لكتاب الله و سنة نبيه.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إجتهاد الصحابي معاذ حكما يحكم به بين الناس و قال من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني.
ومن أحسن ما قيل في هذا الصدد، ما رواه أبو داود عن أحمد قال : ما أجبت في مسألة إلا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجدت في ذلك السبيل إليه، أو عن الصحابة أو عن التابعين. فإذا وجدت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعدل إلى غيره، فإذا لم أجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين، فإذا لم أجد عن الخلفاء فعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر فالأكابر، وإذا لم أجد فعن التابعين وعن تابعي التابعين. اهـ.
ويدل عليه ما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ).
وبهذا يتبين أن الْعلم طَبَقَتان :
الأولى الْكتاب وَالسّنة الثابتة وما يحكم له بحكمها وَالْإِجْمَاع وما يحكم له بحكمه و هذه الطبقة فيها الكفاية لتقرير عقيدة التوحيد ومنهج الإسلام.
والطبقة الثانية، الإجتهاد والقياس فيما دون الطبقة الأولى، و يأخذ فيه بقول الصحابة الأكبر فالأكبر ثم التابعين و تابعي التابعين وأئمة المسلمين.