عرفت الجاهلية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،
أما بعد معشر المسلمين،
لا شك أن التعارف ركن أساسي في بناء الثقة والأخوة والمحبة بين المسلمين، قال الله تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الأرواح جنود مجندة , فما تعارف منها ائتلف , وما تناكر منها اختلف ".
وقد جعلني الله إمام المسلمين فإن بعضكم أعرف بي من بعض. فقد كانت ولادتي و نشأتي بمدينة الرباط بالمغرب، في عائلة بعيدة عن التدين. لكني كنت أتردد على الصلاة في مسجد الحي وفي البيت أحيانا بمبادرة مني، مع أن المحيط العائلي والمجتمعي لم يكن عاملا مساعدا. فإني أتذكر جيدا لما رآني ذات يوم، شخص قريب جدا من العائلة، رآني أصلي فبادر إلى ثنيي عن عملي، بطرحه بعض الشبهات حول الصلاة.
لقد ظللت سنين من العمر فردا من أفراد المجتمع، أعمل بعملهم وأدين بدينهم. فالمجتمع المغربي كما قد تعلمون، كان حينها يحترم الإنسان الذي يصلي، ولا يشرب الخمر ولا يدخن. فهذا هو الإنسان المتدين العاقل في نظر العامة. واما المدخن،ومدمن الخمر، والزانية والمثلي، فإنهم كانوا أمثلة سيئة وأشخاصا منبوذين. كما أن المعايير المادية هي الطاغية في المعاملات والولاءات. فيقرب الأغنياء ويكرمون ويبعد الفقراء ويهجر المساكين.
درست في المدارس الوطنية المختلطة منذ الصغر، حيث لا فصل بين الذكور والإناث، وحيث تحية العلم، وتلاوة النشيد الوطني مرة كل أسبوع. لم نكن نعتقد أننا على باطل، مع ما تجده النفس من نفور، من تلكم الطقوس البدعية المنحطة، المخالفة للفطرة السوية. غير انا كنا مغيبين، عن منابع العلم الشرعي الأصيل، المبني على أساس الكفر بالطاغوت، وإفراد الله بالعبادة.
حياة الناس في الجاهلية، عبارة عن سعي وراء السراب، فمتبع للشهوات، وفرح باقتراف الفجور والملذات، لا يحجزهم عنها إلا توفر المال والإمكانيات. فلا منكر ينكر، ولا داعي يدعو، إلى الصراط المستقيم. فمن أين يأتي النور ؟ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
لقد قادني هذا الطريق المظلم، في مرحلة من العمر، إلى الشكوك، والحيرة والاضطراب، إلى درجة، ترك الإنتساب إلى الإسلام، بل وإنكار الخالق أحيانا.
كان ذلك في فترة الإنتقال من الثانوي إلى إتمام الدراسة بالخارج. كان البلد الأوروبي الذي انتقلت للعيش فيه، ليس له ديانة رسمية، لكن معظم الناس من الديانات النصرانية. كانت تلك التجربة مفيدة بالنسبة لي، حيث قمت بالمقارنة بين المجتمعين والدينين. فكان جليا، من خلال مناقشة بعض النصارى، سواء الدعاة منهم أو العاميين، أن معرفتهم بالكتب والأنبياء، جد محدودة. فالأوروبيون لا يدرسون مادة الدين في المدرسة أو الثانوي، بل تقتصر معرفتهم على الاجتهاد الشخصي، وما توارثه الآباء عن أجدادهم وكناءسهم.
فمع ما توصلت إليه أوروبا من تقدم مادي وتقني، ومع توفر الجامعات والمعاهد، في مختلف مجالات الإختصاص، كالطب والهندسة والصناعة والطيران، إلا أنه، في الجانب الديني والأخلاقي، فإن الأفراد والمجتمع، يعيشون حالة من التسيب والعشوائية. فلا معنى عندهم للحياء والعفة، ولا تفريق بين المرأة والرجل في مجالاة الحياة. بل كثيرا ما تكون المرأة هي الراعية لشؤون الأسرة، في غياب الزوج أو غيبوبته. العلاقات الزوجية قليلا ما تستمر، فكثير إن لم يكن أكثر الأبناء بلا آباء.
هذا مع ما يشيع في المجتمع من تعري و خيانة زوجية وإدمان الخمر والمعازف و أصناف الميسر...فغاية الأفراد، هي بناء المستقبل الدنيوي، واكتساب المال، والمكانة الاجتماعية والعلمية والتاريخية، بصرف النظر عن طرق الوصول إليها. فما من كلمة، أوحركة أو سكون، يبتغى به وجه الله والدار الآخرة، بل المراد هو الحياة الدنيا، باختلاف تجلياتها.
أيضا، لا شك أن عددا كبيرا من الأوروبيين، يتسمون بقدر كبير من الإنضباط، واحترام المواعد وترك الفضول، ومآزرة الآخرين، والتضامن فيما بينهم. فهذا حق ولا شك، ولكن بالمقابل، تجد الكثير، أو الأكثر متشبعين بالفكر العنصري المقيت. فما علاقة لون البشرة بقيمة الإنسان، حتى يبني عليه هؤلاء ولاءهم وبراءهم !؟ وهل هذا، إلا إفلاس في مجال القيم، والعدالة والأخلاق؟ وهل يعقل، فضلا عن أن يشرع، بناء أسس المحبة والإخاء، داخل المجتمع وفي علاقته مع الآخرين، على أساس الأصول العرقية، والحدود الجغرافية !؟
أيها الكرام،
لقد بدأ اهتمامي بالمعرفة الدينية أثناء تواجدي بأوروبا، عندما تولدت عندي، قناعة أكيدة راسخة، من خلال قراءة القرآن، ومن خلال معرفتي بالجاهلية، أنه لا خلاص للفرد وللبشرية، من الضيق والأزمات التي تعيشها، إلا باتباع منهاج الله، الذي وسع كل شيء علما، و قدر كل شيء بحكمة، ولا تخفى عليه عواقب الأمور.
تعرفت على المركز الدعوي بمدينة زبروجيا الأكرانية، الذي كنت أتردد عليه لصلاة الجمعة. كان الوافدون إلى المركز للصلاة من أجناس مختلفة، أغلبهم طلبة، وبعض المستقرين بالبلد، العاملين فيها. كان اللافت هو اختلاف المذاهب والمشارب، تارة حسب البلدان، وتارة بين أبناء البلد الواحد.
فمثلا، تجد الأتراك ينتسبون إلى المذهب الحنفي وإلى التصوف، و الهنود بعضهم منتسب إلى المذهب الحنفي وبعضهم إلى المذهب الشافعي، مع انتشار التصوف والقبورية، التي تنتشر كذلك في القوقاز، وخاصة بين الداغستانيين، أما الشيشانيون فمنهم من ينتسب إلى الجماعات السلفية القتالية. كما لقيت بعض الباكستانيين المنتسبين لجماعة التبليغ.
كذلك توجد بالمركز جنسيات أخرى من العجم، كالأزربجان والطاجيك، والتركمانستان، بالإضافة إلى من انتسب من الأكران إلى الإسلام. ومن العرب، تواجد معي سوريون، هم على منهج المرجئة أو ما يسمى السلفية الإصلاحية، وقليل منهم متعاطفون على استحياء مع القتاليين. أما العراقيون فمنهم المنتسبون للسنة وهم قلة، والباقي روافض يمارسون التقية.
وكل هاته الطوائف التي ذكرت، فإنها تؤدي الجمعة في نفس المركز الدعوي، المحسوب تقريبا على فكر جماعة الإخوان. أيضا كان ممن يتردد على مسجد طلبة من مصر ولبنان والجزائر والمغرب، منهم من ينتسب للعدل والإحسان، وبعضهم للسلفية، وبعضهم للإخوان، وبعضهم يؤدي الصلاة من دون انتساب أو تمسك بأي منهج أو تيار إلا ما وجد عليه الآباء.
وقد كان للإحتكاك بهذا الكم الهائل من التوجهات الفكرية والإختلافات المذهبية، بالغ الأثر في بناء الوعي والمعرفة الدينية عندي، إذ أنني تمكنت من مقارنة تلك الأطياف، والإحتكاك بها، والإنتساب إلى بعضها أحيانا، خاصة منها السلفية.
فقد كنت، بالموازاة مع الدراسة الأكاديمية، أقوم بأبحاث عبر الإنترنت، وأستمع إلى أشرطة الدروس العلمية، وأتعلم القرآن والتفسير والحديث. كنت دوما أبحث عن أجوبة للأسئلة، التي تنتج عن قراءتي بعض الآيات والأدلة. كقوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " وقوله صلى الله عليه وسلم " من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ". فأتسائل لمن تجب علي البيعة في حين أن الحكام جميعا لا يحكمون بما أنزل الله !؟
.....
إخواني الأعزاء،
لم يستطع أحد من المدرسين والدعاة، الذين سألتهم عن الجماعة والبيعة، أن يخلو من التناقض. فتارة يفتون بأن الحاكم هو من يجب بيعته وطاعته، وأن الحكم بغير ما انزل الله لا يسقط ولايته. وهذا القول ظاهر الفساد، بالرجوع إلى الأدلة المحكمة من كتاب الله و سنة نبيه، وآخرون يقولون، لا تجب البيعة إذ لا وجود للإمام! لكن هل هذا موافق لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه، والخلفاء الراشدون من بعده ؟
رجعت إلى المغرب وأنا أخالط أهل الكتاب وأصلي معهم ولا اعتزلهم، مع اعتقادي كفر تارك الصلاة، ومرتكب نواقض الإسلام. فقد كنت واثقا من الثبات على التدين، وحسبت أن المخالطة لا تضرني، غير أني متخوف من الإعتقال بسبب قناعاتي التي لم أكن أناقشها إلا مع القليل. فكانت نتيجة هذا المنهج سلبية إلى حد كبير، فقد ضعفت العزيمة وانخارت القوى أمام التيار الجارف من الشبهات والشهوات.
فإن الإعتقاد والمنهج لم يكونا مستقيمين كما نحن عليه اليوم، فبدل البراءة من كل الناس غير جماعة المسلمين وإمامهم، يتعين عليك انتقاء الأشخاص فردا فردا، فتتبرأ من تارك الصلاة، ثم من بين المصلين تنظر من القبوري ومن الإخواني؟، من الملتزم ومن العلماني!، من يؤمن بالشريعة ومن يؤمن بالدستور ! من يحب الحاكم ومن يحب أهل الثغور ؟
كنت أنتظر الفرصة للتغلب على نفسي، والنهوض بها من جديد لأداء الفرائض و الإبتعاد عن المعاصي، وأنا أتساءل كيف الخلاص من هذه الظلمة والمتاهة!؟ وهل من سبيل لتغيير هذا المنكر! وهل سنموت ميتة جاهلية؟
شكلت لي نظرة المجتمع وردود فعله أقوى الحواجز في طريق الصلاح والخير، فبمجرد التحرك نحو الأمام، تباعد من حولي الكثيون، ممن يريد طريق الدنيا وليس طريق الآخرة. فارقني الأصهار والزوجة والأصحاب، وسلب مني الإبن والمال والأوراق، وقذفت بالإتهامات، لكن قلبي كان مطمئنا. فإني أعلم إلى حيث أمضي، أعلم أن مرضاة الله سبحانه أغلى من مرضاة المخلوقين.
كانت تلك الحركة القوية، والاتهامات الغبية، سببا في اتجاه أنظار الدولة وعيونها إلي، وتواتر أخبار المراقبة والاستهداف لدي. لكن الله وفقني للثباث، وكنت حريصا على نشر الكتاب والسنة الصحيحة، رغم الصعاب والضغوطات.
لقد أسلمت على ما أسلفت من الخير ولا فخر. فقد كانت نقطة التحول وبداية المسار الصحيح، عندما شهدت بأن مناهج الأرض كلها خاطئة، مخالفة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم و الصحابة. لم يكن الوصول إلى هاته الشهادة بتلك السهولة، فإنه أبعد ما يكون عن تصورات الجاهلية. فمن يتصور أن سبعة مليار من البشر كلهم على ضلالة؟ لكنها الحقيقة، ولولا تثبيت الله عز وجل، والأدلة الراسخة من الكتاب و السنة، ومسيرة البحث والتنقيب، والأمثلة السابقة من حياة الرسل، لخشيت أن أتهم نفسي وعقلي.
كانت بداية المسير عندما فتح الله علينا بشهادة أن أمة محمد أهل كتاب، اثنتان وسبعون فرقة خالدة في النار وواحدة في الجنة هي الجماعة وإمامها. وليس كما زعم المبطلون، أن الفرق ليست خالدة في النار، فجعلوهم كأصحاب الكبائر الذين يدخلون النار ثم يصيرون إلى الجنة. فهاته شبهتهم التي دمغها الحق الذي معنا، فأصحاب الكبائر من الجماعة، خالدون في الجنة، وليسوا من الفرق التي في النار، فالصحابة أنفسهم لم يكونوا معصومين من المعصية.
ذكرت لكم هذا لتعلموا أن الطريق نحو الحقيقة لم يكن بتلك السهولة، وتعلموا أننا متشاركون في كثير من العقبات، فترتفع ههمكم للمسير بوثوق. فها نحن اليوم، ولله الحمد، مجتمعون وإياكم على الدين الحنيف، دين الأنبياء والرسل، دين التوحيد، بفضل من الله سبحانه، فإني أحيي فيكم التجرد للحق، والتخلص من الأفكار المسبقة، والتحرر من قيود المجتمع، والتغلب على تخويف الشيطان ووساوسه، وإلجامكم الأنفس عن سبل الضلال. كما أرجو أن تكونوا خير من وطئت أقدامهم الأرض في هذا الزمان، ويكون مجمعكم هذا خير مجمع.
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما.